اليهودي الأسبرطي
عندما عشت طفولتي في فلسطين المحتلة، أحسست بالمشاعر السلبية الحادة المزوجة بالكراهية والحقد من قبل الإسرائيليين التي لم أستطع تفسيرها في ذلك الوقت. أحسست دائماً بأن هنالك أسباب خفية غير معروفة وراء هذه المشاعر الحادة، فدائماً كنت اقول لنفسي: أنا الشخص الذي تم تطُهيره عرقياً من موطنه وكل ما أملك تم إغتصابه، فأنا الشخص الذي يجب أن يكون أكثر غضباً لأنني المظلوم، فلماذا هذا الإسرائيلي يتصرف معي وكأنني الشخص الذي شرده وإغتصب أرضه؟ مرت السنوات وهاجرت لأمريكا للعلم والعمل، وفي غربتي إختلطت بالكثير من الصهاينة (يهود وغير يهود) والمتعاطفين معهم وهؤلاء للأسف الأغلبية هنا، ففي العالم الغربي التعاطف مع الفكر الصهيوني هو شبه تلقائي وعادتاً لا يتطلب أي تفكير مُسبق. مع مرور الزمن تبلورت عندي نظرية أُريد مشاركتها معكم في هذا المقال، ربما نستفيد منها في هذا الوقت العصيب.
برأيي أن منبع هذه المشاعر السلبية من قبل الصهاينة هوغير منطقي وفي صُلبه أسباب عاطفية. لسنوات كثيرة قرأت ودرست الكثير عن الفكر الصهيوني منذ تكوينه خاصة مما دونه مؤسسيها في مُفكراتهم، ووجدت بأن الأغلبية الكبرى من يهود أوروبا والبتحديد قبل الحرب العالمية الثانية كانوا ليسوا من الصهاينة، ومعظمهم كانوا يظنون بأنها أيديولوجية ضالة وخطرة، وبناءاً على ذلك هاجرت ألأغلبية الساحقة منهم (أكثر من 99%) لأمريكا ورفضوا الذهاب الى فلسطين التي كانت تحت الحكم العثماني ومن ثم الإحتلال البريطاني. كل ذلك تحول رأساً على عقب بعد تزايد العداء للسامية في كل أوروبا منذ بداية القرن العشرين، وإنتهائاً بإرتكاب الألمان للمحرقة النازية غضون الحرب العالمية الثانية. فالفكر الصهيوني الذي كان متطرفاً سابقاً، أصبح اليوم الفكر الأكثر تداولاً بين اليهود في العام الغربي. فالمعادة للسامية في أوروبا والمحرقة تسببتا بصفعة شديدة للوجدان اليهودي وتسببت أيضاً في ظهور شعار يهودي جديد يقول: "مرفوض رفضاً بآتا" أن نكون ضحية مرتاً ثانية. هذا الشعار يتفهمه الغربيون لأنهم مارسوا المُعادة للسامية لعدة قرون؛ وأما نحن الفلسطينيين لا نختلف مع هذا الشعار من حيث المبدأ، ولكننا نختلف مع هذا الشعار عندما يستخدم لتحويل الضحية لمُفترس، خاصة عندما يستحدم لإنتهاك حرمة آخرين ليس لديهم أية علاقة بالمحرقة. بنظري هذا الفهم لهذا الشعار لدى الغرب والممارسة الصهاينة له خطير جداً لأنه يفتقد الحدود والضوابط ويجب دراسته عن قرب.
هذا الشعار الخطير يحمل في طياته الكثير من المشاعر السلبية وقلما يتم الحديث عنه (خاصةً في العالم الغربي). فأغلبية اليهود الغربيون شعروا بخيانة وخذلان الأمم الأوروبية لهم خاصة غضون الحرب العالمية الثانية، فأغلبية الأمم الأوروبية تعاونوا مع القوات ألألمانية والكثير منهم سلموا مواطنيهم اليهود للأمان. لقد كانت هذه تجربة مرعبة ومهينة ليست فقط لليهود، بل للأمم الأوروبية أيضا بلا إستثناء لتواطئهم مع النازيين الألمان. فبعد الحرب العالمية الثانية وجد الكثير من يهود الغرب في الأيديولوجية الصهيونية هي المُخلص الوحيد، ووفر لهم الفكر الصهيوني شعور بالقوة والكرامة بحيث أصبح اليهودي وفقط اليهودي هوالمسؤول الوحيد عن أمآنة مستقبله ولن يكون اليهود أبدا أقلية ضعيفة يعتمدون على أمم أخرى لحمايتهم. بناءاً على ذلك وعد اليهود أنفسهم بأن لا يكونوا الضحية مرة ثانة بتاتاً، وفي تلك اللحظة تزامن ظهور اليهودي الأسبرطي (أسبرطة مجموعة إغريقية قديمة آمنت بقوة السلاح والعنف كعنصر أسساسي في حياتها) مُستترتاً خلف شعار "مرفوض رفضاً بآتا".
كلما يتعامل الإسرائيليون بشكل إنتقامي من الفلسطينيين، فإنهم بطرق شتى يرسلون رسائل ليس للفلسطينيين فقط، وإنما يرسلون هذه الرسائل لأنفسهم أيضا لأنهم يعانون من نقص نفسي أو عار بسبب إنعدام أي مقاومة يهودية ملحوظة للمحرقة وللعالم أسره بأنهم لن يكونوا الضحية مرة ثانية. بمعنى آخر كلما تمآدى الإسرائيليون بالبطش والعدوان فهم يحاولون إخفاء هذا النقص والخلل في تركيبتهم النفسية، ولهذا السبب يسارعون بإستخدام العنف المفرط ، والفلسطيني يلعب دور مهم (دور الضحية) في هذه اللعبة النفسية. ولذلك قلما كان بإمكاني نقاش الغربيين (أو اليهود منهم) بنجاح وذلك لأن ذكريات المحرقة دائما موجودة في الخلفية بشكل مخفي ولكنها موجودة بإستمرار. فذكريات المحرقة دائما محسوسة لكن لا تطفوا للسطح لحساسية الموضوع، وهذا عادتاً يؤدي لجدال عقيم لأنه يتفادى مٌسببات الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وهو التطهير العرقي للشعب الفلسطيني من موطنه وإغتصاب ممتلكاته منذ ستة عقود. هذا الحاجز النفسي والعاطفي موجود ومحسوس بشكل مستمر، لكن الحديث عنه يعد جرم خطير، ولذلك سُرعان ما يكوّن الغربي صورة للفلسطيني كالمعادي للسامية، ويساوي المقاومة الفلسطينية بالإرهاب! هذا الحاجز النفسي يعد من أهم الأسباب التي تجعل الغربي يغض الطرف عما يحدث من جرائم حرب إسرائيلية، فتواجد هذا الحاجز مهم للغاية لأنه يخفي جرائمهم التي إرتكبوها بحق مواطنيهم اليهود منذ مئات السنين. أعتقد أن إجتياز هذا الحاجز النفسي مهم لأنه يحتوي على مفاتيح مهمة لحل هذا الصراع بشكل عادل ودائم.
ربما هذا السلوك يفسر ترديد الكثير من الأسرائيليين والصهاينة المقولة التالية: العرب يفهمون لغة واحدة وهي لغة القوة، كأن لغة القوة تعرف التمييز بين العربي والغير عربي! هذه المقولة العنصرية (التي عادتاً يرددها الزعماء اللإسرائليون) تعطي اليهودي الأسبرطي الضوء الأخضر لينتقم كما شاء من الفلسطيني، وبذلك يعوض النقص النفسي.
صوره نادرة لقرية البصة المغتصبة أُخذت بعد النكبة ويظهر بعض من المغتصبين فيها.
ربما يقول البعض أن الفلسطينيين أيضا يعانون من مشاعر سلبية حادة تجاه الإسرائليون كالحقد والكراهية، وأنا أشاطرهم هذا الرأي ولكن يوجد هنالك فرق شاسع: يوجد أسباب موضوعية لهذه المشاعر السلبية أهمها تطهيرهم عرقيا من موطنهم، والآن يسكن بيوتهم ويفلح أراضيهم يهود فروا حديثاً من أوروبا بسبب المحرقة النازية ومعادات ألأوربيون للسامية. من تجربتي مع الكثير من اللاجئيين الفلسطينيين ينتابهم إكتئآب وعار حاد عندما يرون بيوتهم واراضيهم المغتصبة بأيدي المغتصب. وهنا يجدر التنويه بأن الفلسطيني يتعامل مع أسباب معضلته بشكل مباشر وواضح وهي المقاومة بكافة أشكالها. فالفلسطيني يقاوم كل يوم متمسكاً بهويته ويعمل على ترسيخها عبر الأجيال والمحافظة بقدر المستطاع على أرضه في فلسطين التي لم يتكمن العدو من إغتصبها. فكلما ترى طفلاً يحمل العلم الفلسطيني فهو يقاوم وكلما ترى فتاة ترتدي ثوب قريتها الفلسطينية فهي تقاوم. تشبثنا بهويتنا وتفعيلها كل يوم يشكل أكبر إنتصار على المغتصب. إننا ننقول للمغتصب صراعك مع هذا الشعب العنيد لن يحسم بكم تقتل يوميا أو بكم حرب تنتصر فيها، فصراعنا معك صراع أجيال وصراع مع الزمن.
لدي إيمان قاطع بأن كل شخص له الحق بالدفاع عن النفس بأي وسيلة كانت، وبرأيي هذا حق إلاهي متوفر حتى للأعداء. لكن حق الدفاع عن النفس لا يعطي الضحية والمظلوم حق تحويل الآخرين للعبة نفسية للتعويض عن النقص النفسي، حق الدفاع عن النفس لا يعطي الضحية لتصبح أسبرطية مُفترسة بالتعامل مع الآخرين. عندما تصبح أسبرطي فستعيش كل يوم مهووس بالسيف والعنف ومع مرور الوقت يصبح السيف لغتك المفضلة بالتعامل، وبكل بساطة هذه حياة لا تعلم الأمان والسلام وانا أرفضها. لذلك أتمنا من الله عزوجل أن لا يخلق بيننا أسبرطياً فلسطينياً لأننا نرى أمامنا ما يفعله الأسبرطي اليهودي، فوالله هذا ما أخشاه أن يحل بنا لا سمح الله.
من خلال هذا المقال أود أن أقول لكل غربي ويهودي يقرأ هذه الكلمات بأن أساس الصراع الفلسطيني-الأسرائيلي ليس التباين الديني أو العرقي، وإنما جرائم حرب إرتكبها الصهاينة منذ ستة عقود. فمن الممكن لهذا الصراع أن يكون على نفس الحدة حتى ولو إغتصب عربي آخر موطني وشرد شعبي. من خلال هذه السطور أقول لكم: نحن الفلسطينيون لا نريد أن نلعب أي دور في لعبتكم النفسية هذه. نحن لا نريد أن نصبح الدواء الذي يُشفيكم من النقص النفسي الذي تعانون منه. نحن لآ نريد أن نصبح كبش الفداء لما فعله الأوروبيون بحق يهودهم. والله أحياناً أتمنى لو أن فلسطين سلعة تباع وتشترى، لبعتكم إياها لأنني بكل صدق أعلم مشاعركم وأعلم كم عانا اليهود في أوروبا. ولكن فلسطين لنا ليست فقط وطن؛ فلسطين هي هويتنا؛ فلسطين هي كرامتنا؛ فلسطين هي ذاكرتنا؛ فلسطين جوهرة الجواهر ليست للبيع.